بادئ ذي بدء، أنوّه أن قلوبنا مع أهل غزة وندعو لهم في كلّ وقت وحين، وعلى كلّ مسلم أن يقوم على ثغره، بأداء ما له وعليه، فذاك جهاده، وتعطيل المصالح لا ينفعنا ولا ينفعهم في شيء، عجّل الله بنصرهم وإهلاك عدوّهم.
يقول جلّ في علاه: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”.
إن رمت غايةً شريفةً، أو ابتغيت أهدافاً عاليةً، أو أردت الهدى والاستقامة والفلاح للوصول إلى بلاد الأفراح؛ عليك أن تتغيّر، هذا الكلام موجه لمن سمت نفسه وعلت همّته، لك أنت، فلم تك لتفتح هذا المقال إن لم ترد أن تكون أفضل ممّا أنت عليه، استأذنك لأخذ بضع دقائق من وقتك لنعرف كيف نجعل من الصعب سهلاً، ومن المحال ممكناً.
قبل كلّ شيء لابد من أن تعرف “أنّك ما تستهلكه”، وأنّك “ابن تعبئتك لا ابن بيئتك”، إن كنت تجلس في الطرقات مع أبنائها كلّ يوم، فستطبع فيك طباعهم، وتظهر في أخلاقك أخلاقهم دون أن تشعر، كذا الأمر مع من يقضي ساعات في متابعة التفاهة وفراغ الناس، بينما من يغتنم ساعات من يومه يحصّل علماً أو يقرأ كتاباً أو يصقل مهارةً، يتجلى ذلك في شخصيته وأخلاقه ومعاشرته، وكلّ فريق يتخلّق بمن يجالسه فانظر أيها القارئ من تجالس، أخبرك من أنت!
وبعد أن عرفنا ذلك نأتي لموضوع هذه المقالة، ما الرابط بين ما سبق وما سيأتي؟ الرابط أنّ من تخالطه وتجالسه كل يوم لأوقات معلومة في أزمنة معلومة، يسمّى عادة، كما عرّفها أهل اللغة، قالوا:
هي ما يفعله الناس أو الشخص على حكم العقل مرة بعد مرة من غير تكلف.
معجم المعاني
إذن، العادات هي الأساس المعرفي والسلوكي الذي يتكوّن منه الإنسان، وليتغيّر لابدّ أن يغيّرها ويرتقي بها، وكما قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”.
وأنا أعلم يقيناً أن ترك عادة ما لازمت الإنسان عبر السنين من الصعب بمكان، وخلق عادة جديدة لا يقلّ صعوبةً عنه، وفيما يأتي سأبيّن لك إحدى الطرق العلمية في خلق عادة جديدة نافعة، وترك عادة قديمة سقيمة.
ومن باب عزو الفضل إلى أهله استفدت لبّ ما سأقوله من كتاب “هوايات وعادات” لليزا ألدرت، بيد أني زدت عليه وأنقصت، وأضفت عليه ممّا عملت وجرّبت.
خطوات الترك والاستبدال:
أولاً:
توكل على الحي القيوم الذي يراك حين تقوم، واسأله الإعانة والمدد والسدد، فأنت عبده إن وكلك إلى نفسك هلكت، وإن أعانك اهتديت، “وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ”.
ثانياً:
لترك عادة سقيمة، وتوليد عادة نافعة، عليك أن تعزم في قرارة نفسك، وتبيّت النيّة في داخل قلبك، وتؤمن إيماناً راسخاً بمنافع ومضار ما أنت بصدده، ولماذا عليك أن تتركه أو تكتسبه.
ففي العادة القديمة:
عليك أن تبرّر لنفسك وتقنعها بمساوئ هذه العادة، وفوائد تركها، حتى لا تغلبك عندما تسألك في خضم محاربتك لها: لماذا عليك ترك هذه العادة أصلا؟
ثمّ عليك أن تملأ الفراغ الذي خلفته هذه العادة، فلو تركته بدون شيء سرعان ما ستعود إليها؛ لأنك لم تعط النفس بديلاً عمّا حرمتها منه.
وهنا يأتي دور توليد العادة الجديدة:
فمن الطرق السهلة لتوليدها، هي بإحلالها مكان العادة القديمة، فكلّ ما هممت بها، استبدلها فوراً بالجديدة، لتملأ الفراغ الذي خلفته القديمة، والذي هو مكان جاهز للجديدة.
مثال تطبيقي:
لنفترض أن العادة القديمة السقيمة: هي مشاهدة المسلسلات بأنواعها لعدة ساعات في اليوم، والجديدة هي قراءة أكثر من ثلاثين صفحة في يوم من أي كتاب كان.
فالطريقة كالآتي:
بعد أن تعرف مضار مشاهدة هذه المسلسلات بكثرة، ومنافع تركها كما أسلفت في الخطوات السابقة، عندما يأتي الوقت الذي تمارسها -سواءً أكان مخصصاً أم عشوائياً- أو تهمّ بها قم فوراً من المكان الذي اعتدت على المشاهدة فيه وغيّره إلى مكان آخر، وأقطع جميع أسبابها المؤدية إليها، كإطفاء الجوال والجهاز اللوحي (لاب توب) إن كانت المشاهدة فيه.
وانتقل من فورك إلى القراءة دون تأخر؛ لأن النفس في تلك اللحظة توّاقة، ونسبة (الدوبامين) مرتفعة فيها، وأنت حرمتها من ذلك فعليك أن تعوّضها بشيء آخر يشبع الرغبة الملتهبة فيها.
الدوبامين: هو مادة كيميائية أو هرمون موجود بشكل طبيعي في جسم الإنسان، حيث يعزّز من الشعور بالسعادة، بالإضافة إلى كونه ناقلًا عصبيًا، أي أنّه يرسل إشارات بين الجسم والدماغ.
في لحظة الانتقال من العادة القديمة للجديدة غالباً ما يحدث الزلل والوقوع، وتضعف النفس أمام سيطرة العادة القديمة، ومما يُنصح به في هذا الموطن؛ ممارسة رياضة المشي والتفكّر أثناءها، كالتفكير في العواقب، وما تحبُّ أن تكون في المستقبل، والمكان الذي تريد أن تكون فيه، وهي مفيدة للجسم في ذات الوقت.
وممّا تجدر الإشارة إليه:
إن في رحلتك لترك العادة السقيمة -أياً كانت- وهي المسلسلات كما مثّلنا هنا، عليك أن تقطع جميع الحبال الموصلة إليها، والمحفزة لها، كمشاهدة إعلاناتها، ومتابعة قنواتها، والاشتراك في برامجها، ومتابعة ممثّليها، والانضمام إلى مجموعات محبّيها، لأن بداية كل شيء حافز، أو تشويق، أو كلمة، مثل النظرة الأولى، التي تتبعها عدة نظرات وصولاً إلى الوقوع الكامل، ولا تعتقد أن نفسك ستطيعك في ترك شيء قد هيَّأت جميع الأسباب الموصلة إليه فهذا لا يقبله العقل، وكذا الأمر ينطبق على مصاحبة رفقاء السوء وما شابههم، وممّا أنصحك به أن تتدرّج في تركهم وأن تبرّر لهم سبب فعلك، ورغبتك بالمضي قدماً دون تقليلٍ من شأنهم أو احتقارهم.
وفي المقابل؛ عليك تهيئة جميع الحبال الموصلة إلى العادة النافعة وهي القراءة كما مثّلنا، وتحكم ربطها لتنقاد نفسك إليها، ومن هذه الحبال: حضور الأندية، والمجتمعات القرائية، ومتابعة روّاد هذا المجال في وسائل التواصل الاجتماعي، والإحاطة بالكتب المدخلة إليها، وهكذا ستتغلب بعون الله وتوفيقه على العادة السقيمة، وترسّخ النافعة.
واعلم أيها القارئ الكريم، أنّ هذا ليس بالأمر السهل كقراءة هذا المقال، فإنّك حتماً ستقع مرّات عديدة، وتظن عدم قدرتك على فعل ذلك، ولكن إيّاك إيّاك والاستسلام، فإن المرء لا يعدّ فاشلاً عندما يقع أو يُخطئ بل عندما يتوقف عن المحاولة، أظننت أنَّ المجد يكون سهلاً؟
"لولا المشقة ساد الناس كلّهم
الجود يفقر والإقدام قتّال"
ولقد جرّبت هذه الطريقة، ولمست فائدتها ونفعها وأثرها، ولا ينبئك مثل خبير.
إن قلت لي: قد عرفت كيف أترك العادة القديمة واكتسب الجديدة، ما هي العادات التي عليَّ اكتسابها، أو المهارات التي عليَّ تعلمها؟
قلت: طرحك لهذا السؤال يعني تغلبك على هوى نفسك وقطعك شوطاً نفسياً كبيراً في سبيل التغيير، ثمّ هناك عدة طرق لمعرفة الشيء الذي تريد اكتسابه.
طرق إيجاد المهارة المناسبة لك
- الطريقة الأولى: انفرد بنفسك في زاوية من زوايا المنزل أو المسجد أو غيره دون ملهيات تُشغلك، ثم ارجع بها عدة سنوات إلى الوراء حتى الصغر، وانظر ما كنت تهتم به، فربما كنت شغوفاً بالرسم أو الكتابة بخط جميل، فإن لم تجد شيئاً، اسأل من حولك أو المقرّبين منك، “فالمؤمن مرآة أخيه المؤمن”.
- الطريقة الثانية: استخدم طريقة العصف الذهني، وهي بأخذ ورقة وقلم، ثم كتابة جميع الأشياء التي تهتمُّ بها وتميل إليها ولو كانت في نظرك تافهة أو صعبة، وإليك بعض الأمثلة: الكتابة، الرسم، الخط، البرمجة، إدخال البيانات، التصميم، التصوير، الطبخ، اكتساب لغة جديدة، والأمثلة تطول، ثم استخدم عوامل التصفية وهي:
- القدرة المادية والجسدية على أداء المهارة.
- ملاءمة المهارة للعصر الحديث والمستقبل والشيخ جوجل لن يقصّر معك في هذا الجانب.
- مدى حاجة الناس لهذه المهارة.
- إمكانية تطوير هذه المهارة لجني المال بها.
ولابدّ من أن يبقى معك في نهاية التصفية بعض المهارات، اختر أقربها إلى قلبك ثم جرّبها وابذل جميع أسبابها، وإن مللت في بداية الطريق اصبر، ولا تنتقل إلى غيرها حتى تتأكد يقيناً بعدم ملاءمتها لك.
ودونك هذا المقال يساعدك أكثر في هذا الجانب.
وإنّي أرجوك ألّا تكذب على نفسك بعدم وجود وقت كاف في اليوم، الحجة التي أضاعت كثيراً من الناس، ومنعتهم من تحصيل ما ينفعهم، ما دمت تجد وقتاً للتصفح على وسائل التواصل الاجتماعي،فستجد وقتاً لممارسة ما ينفعك، في دينك؛ بإشغالك عمّا يضرّك، وفي دنياك؛ بإعطاء قيمة لنفسك، ف”قيمة كل امرئ ما يحسنه”، والإنسان إذا أحبّ شيئاً خلق له وقتاً رغماً عن أشغاله المتراكمة.
أشكرك على وقتك الثمين وأنصحك بإعادة قراءة هذا المقال في وقت لاحق؛ لتثبت الفكرة في ذهنك وتتضح أكثر، هذا ما جاد به القلم، وسلام الله عليك.
تنبيه Pingback: ماهي الإباحية، وما أسبابها ومخاطرها، مع دليل شامل لكيفية تركها – مدونة موسى بن عبد الله
تنبيه Pingback: كيف يكون صاحب المهارات المتعددة أعلى نفوذاً من مديره؟ - مدونة موسى بن عبد الله