دائماً ما أُغرمُ بالمتحدثين باللغة العربية الفصحى، لا أعرف لماذا، ربما لأن اللغة تحتلُّ مكانة عالية في نفسي، وربما لانطلاق لسان من يتقنون الحديث بها، حقاً لا أعرف السبب، ولكن ما أدركه يقينا أنّ وقعها في أذني كوقع موسيقى الحب في أذن العاشق الولهان.
عندما أتصفح آخر الأخبار وتمرّ بي قناة الجزيرة لا تستوقفني الأنباء بقدر ما يجذبني فصاحة الصحفي أو الصحفية، ترتيب رائع للكلمات وانسياب جذّاب للجمل والتعابير، تجذب كلّ متذوّقٍ ومستلذٍّ للغة العربية، أما عن الفارس الملثّم فحدث ولا حرج، فصاحة وبيان وإلقاء وأسلوب، وكأننا في عصر صدر الإسلام أو العصر الأموي أو العباسي كما قالت الكاتبة: إيناس محروس، التي أبدعت وأجادت في مقالتها التحليلية لخطاب أبي عبيدة، هذا من جهة الصحافة والإعلام ولعلّه تبرير جيّد ألقيه على من يوبخني لكثرة مشاهدتي للأخبار.
ومن جهة أخرى، دأبت على حضور مجالس السيرة في داخل أروقة الحرم المكي الشريف في يوم الخميس من كلّ أسبوع؛ إذ يحاضر فيه الشيخ أ د. حسن بن عبد الحميد بخاري، فقد آتاه الله حسن البيان، وطلاقة اللسان، وأسر القلوب والأبدان، إذا حضرت مجلسه إن شئت نهلت من فصاحته وبلاغته، وإن شئت ارتويت من علمه وأدبه، هذا بالإضافة إلى محفة الملائكة وبركة مجالس العلم، وإن كنت حاضر الذهن سريع الفهم، فزت بالجميع، ولا أبالغ إن قلت أنه أفصح العرب في يومنا الحاضر، ولكن الإنصاف بأن أقول: أنه أفصح من عرفته في حياتي.
وهكذا استمرّ غرامي باللغة العربية الفصحى، وصار من ضمن أهدافي السامية إتقانها كتابةً وتحدثاً، بيد أن الثاني أصعب بكثير من الأول. فقد حسبت في بداية الأمر أنّ التحدث كالكتابة، من أنه حين معرفتي بالقواعد وتحصيلي للأدوات سأتكلم بها بكل يُسرٍ وسهولة، وللأسف الواقع كان له رأي مختلف؛ إذ لا وقت لدي حين التحدث بالتفكير في تركيب الجملة وهل هي صحيحة وما حكمها الأعرابي! هيهات هيهات، فالأمر شديد الصعوبة بهذه الطريقة.
فما كان منّي إلا أن أخذت بالبحث والتقصي والتفتيش والتنقيب عن السر الذي يجعلك تتحدث الفصحى بطلاقة، وكنت كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، وإن يكن! أليست الإبرة موجودة في نهاية المطاف؟
وبعد مدة ظفرت بالسر؛ إذ يكمن في عدة أمور:
أولها: القراءة في كتب التراث العربية الأصيلة بصوت عال؛ حتى يتعوّد اللسان على الجمل والتراكيب.
ثانيها: الإستماع للفصحاء والبلغاء، فالسمع وقود الكلام، كما أن القراءة وقود الكتابة، ولأصدقكم الحديث فلم أر من يعتد بكلامه ويسلم من اللحن الفاحش سوى علماء ومشايخ العلم الشرعي وبعض الصحفيين، فالأول لصلتهم الوثيقة باللغة العربية التي هي أساس العلم الشرعي وبها يُفهم، والثاني لأنهم ملزمون بحكم وظيفتهم، فتعلموها بالدربة والممارسة، كما حكى ذلك الصحفي أحمد فاخوري، الذي يعزف أعذب الألحان عندما يتحدث بالفصحى.
ثالثها: الممارسة وعدم الخوف من الخطأ واللحن، وهنا تكمن المعضلة الكبرى، فالجميع حولي يتحدث العامية، لا يعرفون الفصحى إلا في خطبة الجمعة التي ينام أكثرهم فيها! فأين سأمارسها إذاً؟
فكرت في ذلك طويلاً، ويا لخيبة الأمل لا يوجد حلّ سحري لهذه المشكلة، فما كان منّي إلا أن عزمت أمري بالتحدث بها في كل مكان ومع أيّ كان، بدأ الناس يرمقونني بنظرات تعجّب واستغراب، واستنكار في بعض الأحيان، وقُذفت في وجهي عبارات مثل: “خير يخوي” “وش عنده ذا” “وش فيك صاير رسمي كذا” “تكلم معنا عادي وخل اللغة الأكاديمية”، نعم فالتحدث بالفصحى يبدو أمراً رسمياً أكاديمياً متكلفاً لا أحد يطيقه، وأما عن عائلتي وأصدقائي فأصبحوا يتجنبون الحديث معي، أفتح حواراً وأتكلم لدقيقتين أو ثلاث ثم يقولون لي: “جزاك الله خيراً”، كمن انتهى من إلقاء موعظة أو محاضرة للتو، لك أن تتصور خيبة الأمل التي مررت بها حتى كاد لساني أن يقول: تباً لكل عربي لا يتحدث بلغته الأصيلة، والحمد لله أنّي لم أقل ذلك.
والخبر السعيد أني وجدت بعد معاناة بعض الفئات ممّن يقبلون الحديث بها وهم طلاب العلم والمثقفين وبعض المجتمعات التي تجمع الكتّاب والقرّاء، وأندية تعليم الإلقاء والتحدث ومساحات تويتر، بعضهم يجيد الرد بها وأكثرهم لا يجيدون ولكنهم في المجمل يفهمون منك دون الحاجة إلى شرح، ودون أن تُقذف بألقاب مثل “أكاديمي”، وأدركت مع الوقت أن من الذكاء الاجتماعي أن تخاطب كل فئة بما تعقل كما قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: “حدّثوا الناس بما يعرفون”.رواه البخاري
والجدير بالذكر، أن الحديث بالفصحى يكسبك مهابة وإجلالاً واحتراماً من الناس، فما إن تنطق بعدة جمل حتى يرتسم في الشخص الماثل أمامك سيما التفاجؤ والتعجب، ولسان حاله أنه يخاطب شخصاً ليس كعوام الناس، وقد يصل الأمر به إلى فتح أهداب عينيه حتى تكاد تخرج مقلتاه، إن بدا له عكس ما كان يظنّ فيك، أخبرك بذلك بعد تجارب متكررة، وليس ذلك حكرا على المتحدث بالفصحى، لذا ضع في نصب عينيك أنّك مجهول حتى تتحدث، فلا المظهر يعرّف بك، ولا الشكليات تخبر عنك، وإنما يجسّد لسانك ذاتك الحقيقية.
أرجو أن تكون استمتعت بهذا المقال؛ إذ قد انتهجت فيه أسلوب السرد القصصي فإن أعجبك عبّر عن ذلك وشاركني مشاعرك في التعليقات، فربّ كلمة لا تلقي لها بالاً تُدخل السعادة والسرور في قلب مسلم.
هذا ما جاد به القلم وسلام الله عليك.
سيبويه زمانه ما شاء الله تبارك الله
زادك الله فصاحة وبلاغة، وحقق لك أهدافك.. 🌹
أحسنت أستاذ موسى👏👏
لا أدّعي أنني بارعة في السرد القصصي وإنما أسعى إلى التعلم وأشارككم ما ينفع بإذن الله.
أما عن أسلوب فقد أبدعت خاصة في الانطلاقة وهي أهم شيء في المقال، استمر، وبإذن الله ستحقق أهدافك ومبتغاك 🎉
ماشاء الله تبارك الله
زادك الله علما وفهما
تبارك الله جميل اعتزازك باللغة العربية الفصحى واصرارك على تعلمها تحدثا وكتابة
أيضا سردك رائع استمتعت بالقراءة
أحسنت أجدت وأفدت….
أشد على يديك في هذا الأمر استمر ولا يفتن في عضدك انعدام الرفيق وسخرية الصديق… فوالله ما أعذبها من لغة ولكن للمتذوقين…
أعد النظر في حسبت وظننت !! تحياتي