أمتلك إخوة صغاراً -حفظهم الله ورعاهم- يحبّون إثارة الضجيج والصخب، مما يضطرّني عند القراءة إلى الهروب من المنزل قاصداً الحديقة تارة والمسجد تارة وأحياناً أقصد بعض المقاهي، فالحديقة في هذه الأجواء تعجّ بالنواميس التي تقوم بدور إخوتي الصغار، والمقاهي لا يخلو أكثرها من الموسيقى والضجيج، أما المسجد فهو مكان مميّز؛ إذ تكمن في داخله الروحانية والطمأنينة والسّكينة، وراحة النفس، وانشراح الصدر، وقوّة الهمة والجوارح لأداء الطاعات وغيرها، فأصل التعليم كان في المساجد، وبعض ممّن حباه الله علماً غزيراً بيد أنّه لم يُكتب له الدراسة في الجامعة، قال مفاخراً: “رب ابن جامع خيرٍ من ابن جامعة”.
استندت بعد صلاة العصر على سارية في زاوية المسجد، اقرأ فيها كتاباً متمثّلاً قول أبي العتاهية:
أوْ مَسْجِدٌ بِمَعْزِلٍأبو العتاهية
عن الوَرَى في نَاحِيَهْ
تَدْرُسُ فِيه دَفْتَرًا
مُسْتَنِدًا لِسَارِيهْ
مُعْتَبرًا بِمَنْ مَضَى
مِن القُرونِ الخَالِيَهْ
خَيرٌ مِن السَّاعَاتِ في
فَيْءِ القُصُورِ العَالِيَهْ
لمحني من بعيد أبو محمد، إحدى شيبان حارتنا المعتقين، أوّلُ الواصلين إلى المسجد وآخر الخارجين منه، أمدّ الله في عمره على صحة وعافية، نظر إليَّ نظرة المستغرب، ولسان حاله شابٌّ يبقى آخر الناس في المسجد! ويقرأ كتاباً ؟!
غير ممكن لابدّ أنّه من الطلاب الجامعيين ولديه اختبارات، أتى إليَّ من الناحية الأخرى من المسجد وهو يُحدّق طيلة الطريق،
“ما شاء الله تستعد للاختبارات؟”
“لا لا، تخرجت من الكلية منذ زمن”
ثمّ قال بلهجة بدويّة “أجل وش تقرا؟”
“كتاب عادي من أجل التعلّم ورفع الجهل فقط”
انبسط وأخذ يحكي لي أيّام كان يقرأ في شبابه، وندّد بشديد العبارة حال شباب اليوم، وكان كمن يبحث عمّن يحادثه منذ زمن ليشاطره تجاربه ومعتقداته وشكاويه وحنوّه للماض وكرهه للحاضر، جلس متربعاً عن يميني، يبدو أنّه وجد ضالته!استمرّ الحديث لنصف ساعة أو أكثر، ثم انبرى يناديني بيده ويقول:
“قم قم تعال معي، عندي لك كتب بتعجبك”
أردت الرفض بشدة، فقد أخذ من وقتي الكثير ولا زال يريد أن يأخذ المزيد! ألم تكفني معاناتي مع ضوضاء إخوتي الصغار لتأتي أنت وتُكمل الناقص! ألا يوجد مكان على هذا الكوكب يستطيع فيه المرء أن ينجوَ من براثن البشر؟ انطلقت وراءه على كلّ حال، فلم يترك لي خِياراً آخر.
قصدنا منزله بجوار المسجد، وبدل أن يتجه إلى الباب، مال إلى طرف المنزل، الذي فيه باب مهترئ، خلفه زقاق ضيّق عاف عليه الزمن وغطّاه الغبار وسكنته العناكب، وفي نهايته كوخ من “الزنك”، لا أدري متى آخر مرة زاره، وبعد معاناة مع باب الزنك فتحه بالكاد، وأخبرني بأن في داخله كتب نفيسة قديمة، دخلت وأنا أنفض الغبار عنّي، ووجدت كتباً غطى الغبار أغلفتها، أخذت أمسحها وأتفحصّها كتاباً كتاباً، حتى شدّني عنوان كتاب مهترئ، مكتوب عليه من أكثر الكتب مبيعاً، شدني أكثر فأكثر، في سقف غلافه علم جديد للإنجاز الشخصي، استهواني، وعلى صفحة غلافه الأخرى كُتب: “هذا شيء سمّاه أنتوني روبينز العلم الجديد للإنجاز الشخصي، وسوف تسميه أنت أفضل، شيء حدث لك في حياتك”، هنا وقعت في غرامه، وعرفت أهمية أن يكون العنوان جاذباً، فأنت بصفتك كاتباً لديك ٣٠ ثانية فقط تجعل القارئ يقبل على كتابك أو يُعرض عنه، إنه كتاب “قدرات غير محدود لأنتوني روبينز”، وهو أوّل كتاب في تطوير الذات أقرأه، وفي المقالة القادمة سأسطّر مراجعة عنه، وأسلّط الضوء على أهم ما استفدته منه.
هذا ما جاد به القلم، وسلام الله عليك.
تنبيه Pingback: مراجعة كتاب “قدرات غير محدودة” ومعها 17 كنزاً مستخرجاً من هذا المنجم – مدونة موسى بن عبد الله