مفهوم الرفاهية
عندما تتردد هذه الكلمة عند الناس يختلفون في تفسيرها، فمنهم من يعتبرها شيئا فاضلاً عن حاجة الإنسان، ومنهم من يعتبرها نوعاً من المكافأة والتحفيز، ومنهم من يعتبرها نوعا من التبذير الذي يجب تلافيه، ومنهم من يظنها مطلباً مجتمعياً للرقي بحياة الناس. وفي الواقع فإن مفهومها يختلف بحسب الغرض والمكان والمناسبة التي استخدمت فيها، فدعونا نعرّف هذا المصطلح لنستكشف معناه الحقيقي.
الرفاهية كما جاءت في معجم المعاني هي: رغد الخصب ولين العيش. فالرفاهية إذاً من التبسُّط في الحياة، والرقي في المستوى المعيشي على جميع الأطر (الشخصية، البيئية، العملية، الاجتماعية) وغيرها. ومن أكثر ما لفت انتباهي هو الجانب العملي وبالتحديد في بيئة العمل، وعليه سيكون التركيز في الأسطر القادمة.
الرفاهية في بيئة العمل
لطالما ظن البعض أن الرفاهية في بيئة العمل نوع من الترف الزائد الذي يبالغ فيه أصحابه، والحقيقة أن الأمر عكس ذلك تماماً، إذ الرفاهية في بيئة العمل تساهم بشكل أساسي في زيادة الإنتاجية.
ومن ذلك أني دأبت على ممارسة الأعمال الحرة في المنزل ولم أهتمَّ كثيراً في المكان الذي أمارس فيه عملي، فتارة انسدح بالكمبيوتر على فراش النوم، وتارة أنزوي في زاوية من زوايا المنزل، واستمررت على ذلك فترةً طويلة، وكان معدل إنجازي للأعمال بطيئاً نوعا ما، وكنت أعزو ذلك إلى محدودية قدراتي ومهاراتي في ذلك الوقت.
حتى انخرطت في بيئة عمل جماعية في مكاتب مجهزةٍ بكامل الاحتياجات اللازمة، وبعد فترة قصيرة من الاندماج في أداء المهام، لاحظت أن إنتاجيتي زادت بنسبة 300%، مع أن المهام التي أقوم بها في العمل مشابهة في الكم والكيف للتي كنت أقوم بها في المنزل، ولكنّ المدة والجودة في أدائها مختلفان كل الاختلاف، حيث أوفر 80% من الوقت عندما أعمل في بيئة العمل، وهذا شكَّل تساؤلاً تعجبياً لدي، لم هذا الفرق الكبير بين مقر العمل في المنزل ومقر العمل في المنشأة؟
تأملت ذلك طويلاً، ودققت النظر في أبسط التفاصيل لأعرف الفرق، فعندما أكون في مقر عملي بالمنشأة، المكتب يكون مجهَّزا بكامل الأدوات التي أحتاج إليها، وأما في المنزل فأتنقل داخله بحسب الظروف المحيطة، وكل ما احتجت أداة أبذل مزيدا من الوقت والجهد لتحصيلها من أجل إكمال العمل، فهذا ما شكَّل فارقاً زمنياً في المدة المستغرقة في إنجاز المهام وفي جودتها، إذ الانقطاع المستمر يؤدي للتشتت والذي بدوره يقلل من جودة العمل.
فاستفدت من ذلك أن الرفاهية كلما زادت في بيئة العمل زادت الإنتاجية، وسرعان ما بذلت المال اللازم لتحقيق الرفاهية في بيئة العمل داخل المنزل، وأنا متيقن بأن ذلك سيدرُّ عليَّ مزيداً من المال.
الرفاهية في المنزل
ومن الأمثلة الجديرة بالذكر على الرفاهية في غير بيئة العمل، أنَّ أحد الأشخاص حكى أن زوجته كانت في ما مضى تُلمحُ وتُورّي وتُسرُّ وتُجهرُ له بضرورة تجديد مطبخ منزلهم، لكنه لم يكن يلتفت لذلكك كله، ولم يعره أي اهتمام.
وبعد مدة من الزمن أصبحت زوجته تتضجَّر كثيراً من الطبخ ومن أداء أعمال المطبخ، وصارت تلحُّ عليه بالطلب من المطاعم، فذهب يوماً وألقى نظرةً فاحصةً في مطبخ منزلهم، وأمعن النظر في زواياه وخباياه، وفي كل صغيرة وكبيرة موجودة فيه، فوجده بحاجة إلى بعض أعمال التصليح والترميم وتغيير الديكور، كما كانت زوجته تخبره من قبل، فأنّب ضميره على هذا الإهمال، ولام نفسه على عدم ملاحظة ذلك رغم دخوله للمطبخ كل يوم.
فَهِمَ الزوج أخيراً سبب سلوك زوجته في الآونة الأخيرة، فقرَّر الاستعانة بشركةٍ متخصصةٍ لتجديد المطبخ من أوّله إلى آخره، وأتى بديكور حديث فيه تقنيات جديدة، تُسهِّل عملية الطبخ وتعين على أداء الأعمال المتعلقة به. فتفاجأت زوجته بذلك، وكردة فعل طبيعية، أصبحت تُعدُّ ما لذَّ وطاب من الأطعمة كل يوم، وتتفنن فيها وهي سعيدة بذلك، واختفى كل أثرٍ للضجر.
فالبرغم من أن عمليات التجديد التي أجراها قد كلفت قدراً كبيراً من المال إلا أنّ الزوج رأى نتاج ذلك على سلوك زوجته، ورأى مقدار الزيادة الكبيرة التي حصلت في إنتاجها اليومي، فبدلاً من تبديد المال بالشراء من المطاعم الاستهلاكية، استثمر ذلك في أساس المشكلة وحلَّها، ونستطيع قياس ذلك وتطبيقه على مختلف جوانب حياتنا العملية والشخصية.
الرفاهية في الصحة الجسدية
ومن المعلوم أن الرفاهية لا تقتصر على بيئة العمل بل تشمل جانب الصحة الجسدية، فالجسدكلما تمتع بمزيد من الرفاهية انعكس ذلك على صحته والذي ينعكس تباعاً على إنتاجه وأدائه، فالجسد كلَّ ما أعطيته حظه الكافي من النوم، وكنت متوازناً في مأكولك ومشروبك سترى النتائج عاجلة غير آجلة.
ومن أمثلة ذلك أنك لو تركت وجبة العشاء، ثم نمت من الليل مقدار ست ساعات، ومارست الرياضة لمدة لا تقل عن نصف ساعة في الصباح الباكر ، ودأبت على ذلك أسبوعاً واحداً فقط، فسوف تلاحظ الفرق في نشاطك وطاقتك خلال أيام الأسبوع كلها، بل حتى على مستوى الدماغ الذي هو أهم عضو في الإنسان، فمن خلال تجربتي وممارستي لعملي الذي يعتمد على التفكير بنسبة 70% لاحظت فرقا هائلا ومثيراً خلال مدة قصيرة جداً، فهذه هي الرفاهية التي يطلبها الجسد ليزيد من إنتاجه.
ومن المؤكد أن فوائد هذه الممارسات تراكمية يظهر أثرها على المدى الطويل، والكلام على الصحة الجسدية يطول وليس محل ذلك هنا، ولكن لما لمسته من تغير ملحوظ خلال مدة قصيرة نقلت هذه التجربة لكم.
الرفاهية واختلاف المفاهيم
كما يجب أن نعلم أن مفهوم الرفاهية الذي تحدثنا عنه آنفاً، قد حصرناه في إطاره الضيق ( بيئة العمل) وهو بالطبع يختلف من شخص لآخر، فقد يرى صاحبكم أن مجرَّد تجهيز المكتب بكامل أدواته الضرورية وغير الضرورية نوع من الرفاهية ولكن قد يرى غيري ذلك ضمن الحد الواجب، والرفاهية تكون بجلب كرسي طبي تناهز قيمته 2000 ريال سعودي، وتوفر جميع أنواع القهوة على مدار ساعات العمل، ووجود صالة في المقر لممارسة الألعاب كالتنس، عند ذلك نطلق على بيئة العمل مسمى الرفاهية، وقد يكون ما سبق عند بعض الناس هو الحد الأدنى من الرفاهية، ولا مانع من ذلك كله ما دامت توفره المنشأة، ويزيد من إنتاجية العاملين فيها.
فالفكرة التي نودُّ إيصالها أنه كلما رُفِّه عن الفرد في مجال عمله كلما انعكس ذلك طرديا على إنتاجه. وفي بعض الأحيان يكون الترفيه في تحسين الموجود لا في إيجاد المفقود، ومن أمثلة ذلك: بدل أن توفر وسائل للترفيه قد تكون مكلفة، حسِّّن الموجود ليكون نوعاً من الترفيه كمحاربة البيئة السامة، وإن اختصرنا البيئة السامة قلنا: هي أن تذهب إلى عملك كأنّك مرغمٌ عليه، وتودُّ الخروج منه من حين الدخول إليه. ومن علاماتها: تصيد الأخطاء، والتحزبات، والإقصاء لفئة من الناس، وهلمَّ جرّاً، ففي مثل هذه البيئة الرفاهية أن تحلَّ المشكلة الموجودة لا أن تجلب وسائل الترفيه المفقودة، إذ المشكلة تكمن في الأساس لا في القشور.
الترفيه بالتسهيل
ومن أنواع الترفيه (التسهيل)، لم أجدكلمة تعبر عن المراد غير هذه، فالمقصود أن تُسهل ممارسة الشيء لتزيد فيه أو تداوم عليه أو تحثَّ على فعله، ومن ذلك أنك إن أردت اكتساب عادة جديدة، سهِّل ممارستها، كالرياضة مثلاً، إن أردت ممارسة الرياضة بانتظام فاشترِ عِدة أنواع من الألبسة الرياضية، ثم ضع واحداً في غرفة النوم، وآخر في المركبة، وآخر في مكان ظاهر يذكرك بممارسة الرياضة، فهكذا كلما هممت بممارستها سَهُل عليك ذلك لتوفر مواردها وسرعة الوصول إليها. فهذا النوع من الترفيه أسميته التسهيل، فهو عبارة عن تسهيل الطرق والوسائل والإجراءات من أجل فعل شيء ما سواءً أكان مؤقتا أو دائماً.
الترفيه عن الذات
ومن أنواع الرفاهية أن تخصص جزءاً من اليوم لنفسك، لا يشاركك ولا يزاحمك فيه أحد، تمارس فيه هوايتك أو عملك الخاص أو أي شيء تحبه، ومن الجيد ألا يقل عن ساعة في اليوم، بواقع ٧ ساعات في الأسبوع، تقضيها إن فاتت. ولذلك فوائد لاتحصى، منها تنمية ذاتك ومهاراتك وقدراتك، وأهمها أن تحافظ على توازنك، فالنفس إن أعطيتها حقها من الترفيه الذي تريده، أعطتك شعوراً بالرضا والثبات، مهما كانت الظروف والضغوط محيطة.
وفي عصرنا المعقد من المهم جداً أن نرفِّه عن أنفسنا بأنفسنا ولا ننتظر الآخرين ليفعلوا ذلك، دون أن نغفل عن حقوق من هم حولنا، وعلى رأسها حقوق ربنا جل في علاه.
تنبيه Pingback: “فيدني” موقع عربي جيد يجمع الكثير من خلاصات المدونات العربية مرتبةً وفق الموضوع – يونس بن عمارة