الباعث على هذا المقال منشور للأستاذ الفاضل طارق ناصر، واسمحوا لي أن أغتنم الفرصة لشكره، فقد تعلمت منه بعض الأمور التقنية في إنشاء هذه المدونة، فجزاه الله عني خيراً.
فأجبته على عجالة إجابةً مختصرة:
وهنا أجيبه بإسهاب أكثر وتضمين لبعض أسباب الشتاب لطلبة كلية الشريعة خاصة، وأنت أيضاً اقترح علي مواضيع مثرية تستحق الكتابة عنها فأُذُنَيَّ تُصغي، وقَلبي يَعي. لننطلق إلى المقال بِلى تأخير.
جدول المحتويات:
- المقدمة
- مرحلة ما بعد التخرج
- أفكار منتشرة بين طلبة الشريعة
- كيف تعاملت مع الشتات والتخبط؟
- كيف تصبح مميزاً بين أقرانك؟
أضحى من المعلوم لدى أغلب الناس أن فرص المتخرّجين من الجامعات المعتمدين على الشهادة اعتماداً كلياً في سوق العمل باتت محلّ شك ونظر، خصوصاً قسم الشريعة وما يماثله من الأقسام النظرية التي عُدّت من الأقسام غير المواكبة لسوق العمل، وعليه خُفِّضت نسبة القبول فيها إلى ٥٠%، وزاد الطين بِلة اعتبار هذه الأقسام في بعض الجامعات وسيلةً للتخلص من الطلبة ذوي الدرجات المنخفضة، وبصفتنا طلبةً منتسبين أو متخرّجين منها لن نختبئ خلف عبارة (أننا لم نكن نعلم ذلك)، ولكن إدراكنا اليقيني بأنّ علم الشريعة أشرف العلوم وأحمدها وأعلاها وأفضلها انتسبنا إليه، والعتب ليس في هذه النقطة عزيزي القارئ!
مرحلة ما بعد التخرّج
عندما تخرّجت من كلية الشريعة، علمت معنى أن سوق العمل لا يفضّل طلاب هذا القسم، من خلال المقابلات الشخصية التي حضرتها، والمواقع والأماكن والشركات والكيانات التي قدمت عليها، ولست أقصد المراكز الدعوية أو الإسلامية التي تبحث عن هذا التخصص وهي الأقل، بل الشركات بعمومها في جميع المجالات وهي الأكثر، وممّا أدركته من ذلك أن سبب عدم تفضيلهم لطلبة الكليات النظرية ليس لذات التخصص فحسب، بل لطبيعة المتخرّجين أنفسهم، ويرجع ذلك إلى عدم امتلاكهم للمهارات والأدوات التي يريدها سوق العمل، ونستطيع لوم أقسامنا لعدم تعليمها لنا، وجميعنا نعلم أن هذا هروب من المسؤولية، فالمسؤول عنك بالدرجة الأولى هو أنت.
دعوني أذكر لكم بعض الأفكار التي لا يريدها سوق العمل ولكنّها منتشرة بين بعض الطلبة في قسم الشريعة:
أفكار منتشرة بين طلبة الشريعة
الفكرة الأولى:
كره بعض طلبة الشريعة للغة الإنجليزية، وتسميتها بلغة الكفار، ولو سألت كل طالب مؤمن بهذه الفكرة، عن سبب هذا البغض والكره اللاواعي لما أجابك إجابةً منطقية، إنما هي من جملة الأفكار التي تسود بين طلاب كليةٍ معينة، واللغة الإنجليزية ركيزة من الركائز الأساسية للعمل في وقتنا الحالي، فانظر مدى تناقض هذه الأفكار مع ذلك.
الفكرة الثانية:
الانغلاق على الكتب والمواد الشرعية. لطالما حرص مشايخنا الفضلاء -رضي الله عنهم- على نصحنا بالاستزادة من المواد المقروءة والمرئية الشرعية على اختلاف أنواعها، وحثِّنا على كلّ ما يساهم بنمائنا وزيادة علمنا من كتب العلماء في هذا الصدد، وفي هذا خير وبركة من جهة، ونقص وتقصير من جهة أخرى، بينما لا نجد من ينصحنا بقراءة ولو كتابٍ واحدٍ في إدارة الأعمال أو حضور دورات في الابتكار والإبداع، أو في التعامل مع مجريات الحياة، وما إلى ذلك، ولست ألقي اللوم عليهم هنا، فقد أدّوا ما عليهم وبلغوا أمانتهم، وإنما أردت الإشارة على أحد الأسباب التي جعلت غالب طلاب الشريعة يكتفون بمواد قسمهم وعدم الإلتفات إلى ما سواها، وفيهم من تعلّم علوماً ومهارات أخرى ولكنّهم فئة قليلة.
الفكرة الثالثة:
عدم قبول فكرة العمل مع المرأة، ولا أتحدث هنا عن الحكم الشرعي، وأكاد أجزم أن جميع طلبة الشريعة يعلمون حقيقة تحريم الاختلاط بالأدلة من الكتاب والسنة، ولكن -وللأسف- لا تطبق جميع الأحكام الشرعية بدقتها وتفاصيلها في عصرنا الحالي، فالاختلاط في كل مكانٍ، ومع التوسّع في توظيف العنصر النسائي في المملكة العربية السعودية، أصبح الحصول على عمل ليس فيه اختلاط من الأمور الصعبة، بل ربما يكون مستحيلاً في المستقبل القريب، إلا أن تنفرد بنفسك في صحراء قاحلة لرعي الغنم، والخبر السيء أن هناك احتمال لأدراج النساء في رعي الغنم أيضا تحت باب المساواة. –الاحتمال تهكمي–
ولست هنا أتساهل مع الاختلاط المفضي إلى الفتنة وسوء العاقبة، وقد صارحت أحد مشايخي -الشيخ عابد بن عمر فلاتة- في هذا الموضوع، وأنقل لكم قوله الذي ارتضيته لنفسي، حيث قال: “إذا أمنت الفتنة في المكان الذي ستذهب إليه فلا بأس، وإن لم تأمن فابتعد وسل الله خيراً منه”، والفتنة هنا تختلف من شخص لآخر، فمن الرجال من يفتنه الصوت، ومنهم من لا يتأثر إلا بأمر أغلظ من ذلك، وتفسيري لقول الشيخ: إذا لم يظهر من أجساد النساء في مكان العمل سوى الشيء اليسير، وكان ثمّ مسافة آمنة بينك وبينهن، وأمنت الفتنة على نفسك فلا بأس، وأما إن تكشفن تكشفاً فاضحاً كالمبالغة في الزينة ونزع الحجاب وظهور المفاتن، فهنا اهرب بدينك.
وأردف: “أن علاقتك مع المرأة في إطار العمل عليها أن تبقى فيه ولا تتعداه، وأنت من يتحكم بتطوّر هذه العلاقة، واعلم أن خروجها عن إطار العمل يبدأ بأشياء بسيطة جداً كتقديم البسكويت والقهوة”.
ومما يتعلّق بهذا الموضوع محادثة دارت بيني وبين أحد موظفي الموارد البشرية لأحدى الشركات، سألته فيها سؤالاً مباشراً عن سبب عدم التفاتهم إلى طلبة الشريعة كثيراً، فقال: “اذكر لك إحدى المواقف التي مرّت بي مع أحد المقرّبين: أوصاني بطالب شريعة لأجد له وظيفة تلائمه، فاستدعيته للمقابلة الشخصية مجاملةً للموصي، ووجدت أنه لا يعرف في هذه الدنيا شيئاً سوى التحفيظ والقرآن والفقه والحديث، بالله هذا ما الوظيفة التي يريد أن يشغلها في شركتنا؟ إمام المصلى؟!”.
والمقصود من إيراد هذه الأفكار هنا ألا نتمسك ببعض المعتقدات التي قد تكون صائبة من وجه، وخاطئة من وجه آخر، وقد تصلح في زمان ومكان، ولا تصلح في آخر، وإن كان بعض هذه الأفكار سائد في مجتمعنا، فليس كلّ ما يتفق عليه جمع من الناس يكون صحيحاً، فالصحيح أن نُعمل العقل السليم، والنقد البصير في اختيار الأفضل في مسار حياتنا.
كيف تعاملت مع الشتات والتخبّط؟
ولنعد إلى الموضوع الرئيسي لهذه المقالة، لا أخفيكم أني وقعت في التيه والقنوط والإحباط لرفضي من جهات كثيرة، ولكنّي استثمرت واغتنمت هذا الوقت ففيه وجدت مهارتي في الكتابة، وطوّرت نفسي في مجالات عديدة، وذلك عبر تكوين عادات يومية، تسهم في النمو ولو كان على وتيرة بطيئة، فالقطرات الصغيرة المتتالية تصنع حفرة في الأرض مع مرور الوقت، وهنا أشير إلى أهمية تنمية المهارات فالسوق يبحث عنها أكثر من الشهادات، وانظر إلى هذا البيان الحديث الوارد من الموارد البشرية لتتأكد ممّا أخبرتك به.
فلو كانت درجاتك منخفضة لا تظن أن لا مستقبل أمامك، فهناك مقولة تقول: “الصف الأول من المدرسة يصنع العلماء، والصف الأخير يصنع القادة”، بالطبع، فتحصيل العلم في داخل أروقة المدرسة لا يمكنه أبداً أن يصنع قائداً يسيّر شؤون الناس في أي مجال كان، فهناك مدرسة أخرى للتعلم منها اسمها مدرسة الحياة.
ومن عجائب القدر أنك لا تعلم أين يكمن الخير، فمرحلة الفراغ والتشتت التي مررت بها بدل أن تكون أسوء ما حدث لي، كانت أفضل مراحل حياتي، ففيها أعدت اكتشاف نفسي من جديد، وأعدت تكوين مسار حياتي نحو الأفضل، فكل ما يحدث لنا هو خير ما اختاره الله لنا فلو كُشِف الغيب لما اخترنا إلا ما اختاره الله ابتداءً.
كيف تصبح مميزاً بين أقرانك؟
إنّ عدم إيجاد فرصة للعمل أو لإكمال الدراسة بعد التخرج أمرٌ مشترك بين كثير من الناس في جميع الأقسام، فالمنافسة أصبحت شديدة وشرسة، وما عليك إلا أن تنمي المهارات التي يطلبها العصر الحديث، وتوسّع مداركك بالقراءة والتعلم، وتثقف نفسك في مختلف المجالات والعلوم، فلا يعقل أن لا تعرف شيئاً عن الذكاء الاصطناعي مثلاً وهو أحد المحاور الرئيسية التي يتحدث عنها العالم اليوم! كما عليك أن تمارس ما اكتسبته من مهارات، وتصنع لك أعمال ملموسة تكون بديلة عن الخبرة التي يطلبها أرباب الأعمال.
فما الذي سيميزك عن غيرك ويجعلك الخيار الأولى؟
نعم، هي تلك الأعمال الملموسة الناتجة عن مهارتك
وعلى إثر ذلك قد يُفتح لك باب في مجال العمل الحر والاستثمار مستقبلاً، فمن أساسياتهما أن تملك شيئاً لا يملكه معظم الناس ثم تبيعه لهم، أو تبيع حلاً لإحدى مشكلاتهم، وقد يكون بضاعةً ملموسة أو إلكترونية أو مهارة تقدمها على شكل خدمة، أو استشارة تثري بها من يحتاجها.
تأمّل فيمن حولك من الأشخاص الناجحين، أو الذين حالفهم الحظ في تحصيل ما يريدون، دعني أخبرك بالسر وراء ذلك، السر هو أن هذا الحظ ضيف لا يأتي للجميع، وإنما ينزل عند الذين يُعدّون المجلس ويجهزون الضيافة لاستقباله، وأما من بقي مجلسهم خاوياً ولم يجهزوه بجهازه فلن ينزل عندهم مطلقاً.
فلو أن شخصان أرادا أن يستثمرا بفتح محل إلكترونيات، ولكنّهما لا يملكان رأس المال ولا القدرة على الاقتراض، الأول انتظر حتى يتوفر لديه المال الكافي ثم يبدأ، والثاني بدأ من حينه وتعلّم كل ما يمكنه أن يتعلم حول هذا الأمر، وصحب أرباب الأعمال والتجار، وفعل كل ما بوسعه بالرغم من عدم امتلاكه للأساس وهو رأس المال. ثم دارت الأيام وتوّفر هذا المال بالتساوي للشخصين، وبدأ كلّ منهما العمل، بعد مدة خسر الأول في استثماره، ونجح الثاني، فهل هذا حظ؟ أمعن التفكير في ذلك.
وهناك أمرٌ أخير أختم به هذا المقال عليك أن تدركه عاجلاً، وإلا ستعلمكه الحياة آجلاً: وهو أن معظم الناس لا يتوّظفون أو يكملون في تخصصاتهم ذاتها، ومن أبرز الأمثلة لذلك: الكاتب أيمن العتوم فقد تخرّج من كلية الهندسة ثم تخصّص في اللغة العربية وأصبح كاتباً وأديباً وروائياً، ومن الأمثلة أيضاً: الدكتور توفيق الربيعة فقد حصل على الدكتوراة في علوم الحاسب، ولم يمنعه ذلك من تولي منصب وزير التجارة والصناعة، ثم منصب وزير الصحة، والآن يشغل منصب وزير الحج والعمرة.
وهذا يؤكد ما أخبرتك به في هذا المقال من ضرورة التوسع في تحصيل العلوم، وتنمية المهارات الحياتية مثل التواصل والانسجام وضبط النفس، والحسية مثل: التصميم والبرمجة، بحسب ما يناسب ويلائم ميول واهتمام كل شخص بعينه.
ومن أمثلة الذين اكتسبوا مهارات لا تتعلق بتخصصهم: صاحبكم -كاتب هذا المقال- فمن ضمن المهارات التي طوّرها هي كتابة المحتوى، وبها استطاع إيصال هذه الأفكار إليكم، فلا تترددوا في طلب خدماته في الكتابة -ولن يقصّر معكم-، أو ادعموه بنشر هذا المقال ليعم نفعه، وتشاركونه في الأجر.
هذا ما جاد به القلم وسلام الله عليك.
اطلع على المقال الأكثر مشاهدة في المدونة: ماهي الإباحية، وما أسبابها ومخاطرها، مع دليل شامل لكيفية تركها
تنبيه Pingback: كيف يكون صاحب المهارات المتعددة أعلى نفوذاً من مديره؟ - مدونة موسى بن عبد الله