تأخرت هذه المقالة نعم تأخّرت كثيراً، ولكن أين هذا القلم الذي سيصف لك حجم تلك الآلام التي تحدث في غزة، والله وتالله وبالله لن نشعر بما يشعر به إخوتنا في فلسطين، مهما قلنا، أو فعلنا فليس الخبر كالمعاينة، فكيف لك أن تشعر بحال من هُدّمت بيوتهم على رؤوسهم وأنت قاعد في بيتك آمن، وكيف لك أن تحسّ بحال تلك الأم المكلومة التي فقدت جميع أولادها، وذهبت تهيم مفجوعةً يمنةً ويسرةً بحثاً عن بقايا أشلائهم، وجميع من كتب أو تكلم ما هي إلا محاولات نوقظ بها ضمائرنا النائمة، وما هذا المقال بخارج عنها.
وأقصد بالضمائر النائمة أننا ألِفْنا النعم التي غُمرنا بها، فتجد بعضنا يغضب غضباً شديداً حتى يحمرّ وجهه، إذا تأخر طلبٌ طلبه من مطعم أو غيره! أو انقطع الماء هنيهة من اليوم! أو فُصل الكهرباء عنه عِدة ساعات لعطل ما! أو حتى لتكراره صنفاً معيّناً من الطعام كلّ يوم!
فجاءت أحداث غزة لتوقظ هذه الضمائر، فقد رأينا تلك الأم التي فقدت أبناءها وهي تقول بملء فيها وكلها فخر وعزة، المرأة الغزاوية ولّادة نجّابة، وذلك الشاب يُهدم البيت على رأسه، ثم يُخرج من تحت الركام ويهتف محمِّساً “الله أكبر الله أكبر”، وذاك الطفل يقف على ركام بيته وينصح ويوجّه ويرسل رسالةً للعالم، أو ذاك الشاب -عبود أفضل مراسل في العالم- يصوّر ويصف حال شعبه وأهله، ثم تمرُّ من فوقه طيارات الاحتلال وترسل صواريخها فينظر إليها وكأنها عصفور طار من فوقه، ويقول مبتسماً كلها ربع ساعة ونموت!
بربكم أي قلوب يملك هؤلاء؟ ما تعريفهم للموت وهل يلقون له أي اعتبار؟
إن هذه المشاهد كفت هذه الأمة مشقة النظر في كتب التاريخ ومعرفة زيف الغرب وأكاذيبه، وأنظمته الفاسدة، التي لا تطبّق إلا على الضعفاء، وأظهرت نضال أهل غزة أن الغرب لا يمتلك أي قيمٍ إنسانية، وأن مناداته بالحرية وحقوق الإنسان والمرأة ما هي إلا هراء وغثاء.
أما عن اليهود المحتلين الغاصبين المارقين، إخوة القردة والخنازير، حفدة قتلة الأنبياء على مرّ الدهور، فما هذه الحرب إلا إظهار لحقيقتهم، وزيف ادعاءاتهم، فقد شاهدتم جميعاً كيف يقتّلون الأطفال والنساء والشيوخ والولدان وحتى الخدَّج!
ولو لم يكن لهذه الحرب، ولهؤلاء الفلسطينيين الشجعان نصرٌ إلا إفاقة هذه الأمة من غفلتها وإظهار عدوّها على حقيقته لكفى بذلك نصراً عظيما.
فقد أصبح الرجال والنساء والصغار والكبار والعوام والجهّال والحمقى جنباً إلى جنب مع العلماء والمثقفين على وعي تام بهذا العدو الغاصب، وبالقضية الفلسطينية التي كادت تنسى عند فئة منهم، وإن تناساها شرذمة قليلون، وحرّكت هذه الحرب الضمير الإنساني الحي لدى العالم أجمع، فها هم الناس ينتفضون انتصاراً لها في شتى أنحاء المعمورة، فلا يوجد قلب بشري يرى هؤلاء الناس يقتّلوا بهذه الوحشية ولا يُحرك ساكناً، ووصل الأمر إلى اعتراف واستنكار الإسرائيليين واليهود أنفسهم من داخل إسرائيل وخارجها، ووصفهم الباحث اليهودي نورمان فلنكشتاين الذي نطق وصدح بكلمة الحق وقال: بأن ادِّعاء الإسرائيلي بالمظلومية وبكاؤه إنما هو كدموع التماسيح.
ولعمري لقد صدق وإن كان يهودياً، وما أصدق الحق حين يأتي من الأعداء، وما أقبح الخيانة حين تأتي من الصديق!
وعلى الرغم من ذلك إلا أن العصبية الدينية والمذهبية والعرقية أخذت في الظهور والانتشار بكثرة، وانقسم الناس في التعامل مع القضية الفلسطينية إلى أربع أقسام:
أقسام الناس في التعامل مع القضية الفلسطينية
القسم الأول: يدعم القضية الفلسطينية ومقاومتها وكلّ من يدعمها مهما كان دينه أو مذهبه أو عرقه ويعادي كلّ من عاداها.
القسم الثاني: يدعم القضية الفلسطينية، ويعادي مقاومتها وكلّ من أيدها.
القسم الثالث: يدعم القضية الفلسطينية ومقاومتها، ويعادي بعضاً ممن يدعم مقاومتها ولو كان فلسطينيّاً.
القسم الرابع: مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ويسمون أنفسهم (بالمحايدين)
وفي الأقسام الثلاثة الأول قد وصل عند بعضهم المبالغة في العداء واتهام الطرف الآخر بعبارات مثل: صهيوني، متصهين، إخونجي، وطنجي، وما أقبح سهولة ابتذال هذه الألفاظ!
ويتجلى ذلك أكثر في القسم الثاني، حيث يتهمون المقاومة اتهاماً صريحاً في التسبب بهذه المأساة لأهل غزة، والتآمر مع إسرائيل في إحداث هذه الحرب!
وبينما يقلّل القسم الثالث من دائرة العداء، ويوجهها على فصائل الشيعة في حزب الله في لبنان وإيران والعراق، والحوثي في اليمن، لكونهم ذا سابقة دموية على المسلمين وإن كانت أقلّ بشاعة من دموية الاحتلال، وقد يصل الأمر إلى معاداة الفلسطيني نفسه حين يشيد بهم ويستقبل الدعم منهم.
وأما القسم الرابع هم الذين فضّلوا إغماض أعينهم عمّا يدور في فلسطين وجهلوا القضية، وبعبارة أصدق تجاهلوها لكونها لا تعنيهم ولا تمسّهم بضرٍّ ولا نفع لا من قريب ولا بعيد، وبالمقارنة بالأقسام الثلاثة الأول الذين يتفقون على دعم القضية ويختلفون في كيفيتها فهؤلاء هم الأدنى والأردى “أشباه الرجال ولا رجال!”.
وإذا تأمّلت فيما سبق رأيت نجاح العدوِّ في التفريق بين المسلمين وإشغالهم بمعاداة بعضهم البعض عن النظر إلى العدو الأكبر، فعندما تتراشق طائفتان من المسلمين بالسبِّ والقذف والتشكيك والتخوين، فالمستفيد الأول هو إسرائيل، على أنها عزّزت ذلك ببث الكراهة والعداء بين الطوائفِ من خلال حسابات وهمية على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
وعليك أيها المسلم الحر ألا تقع في هذا الفخ، وألا تلوم ذاك الفلسطيني الذي يفرح بمعونة الشيعة والحوثيين فلسان حاله: “يا زلمة حنّا بنموت ومحد دعمنا عسكرياً غير هؤلاء”، فلحجته حظٌ من النظر، واكتف بالصمت في مثل هذه الحالات، فلم يكلفك أحد بالكلام في كل صغيرة وكبيرة!
ولا عبرة بتأييدك للمقاومة من عدمها، فإن كانوا في نظرك فصيلة إرهابية تسببت بالإبادة لأهل غزة، فهم في نظر غيرك أبطال وشجعان ولا يحول دون مسعاهم سوى الشهادة، ولو أمعنت النظر في كل مجتمع إنساني يكون فيه اضطهاد ترى أن هناك مقاومة، فما دام ثمة ظلم ومعاناة ثمة مقاومة تدفع ذلك والشواهد في التاريخ كثيرة، ولكن تمسّك بموطن الاتفاق ألا وهو دعم القضية الفلسطينية، ودع كثرة كثرة القيل والقال فيما لا ينفع!
اقرأ المقال الأكثر مشاهدة في المدونة: ماهي الإباحية، وما أسبابها ومخاطرها، مع دليل شامل لكيفية تركها
تحقيق البيان في دعوى المقاطعة
ثم نأتي لدعوى المقاطعة، ولست هنا أتناول تأييدها من عدمه فهذا باب واسع لم يتفق ولن يتفق عليه الناس لا قديماً ولا حديثاً، ولكن دعوني أوضح أهم مبرّرات كِلا الجانبين:
من يقول بالمقاطعة: يحتج بأن تلك الشركات المقصودة بهذه الحملة تدعم الكيان الإسرائيلي الغاصب سواء أكان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبمقاطعتها نقطع هذا الدعم، ونوصل أصوات الشعب إلى أصحاب القرار والشأن عبر التأثير على العلاقات والاقتصاد العام للبلد ذاته.
ومن يرى عدم المقاطعة: يقول بأن المال الذي يصل للشركات الأم في الغرب نسبة قليلة، وأن المتضرر الأكبر هو المشغّل للفرع في ذات البلد، وهذا الضرر قد يطال المواطنين الموظفين في نفس الشركة، مما قد يؤدي إلى خسارتهم لوظائفهم وتضرّر عائلاتهم، وأنا أدعم بشرائي منهم المواطن بالدرجة الأولى، واقتصاد بلدي، بكون النسبة الأكبر تُنفق فيه.
فكما ترى أن لكلا الجانبين حججاً قوية تستحق الالتفات إليها، وثمة فرق جوهري في نظام تلك الشركات وهو انقسامها لقسمين:
- أن تكون فرعاً أجنبياً يعود ريعه بالكامل للشركة الأم مع نسبة للدولة.
- أن تكون استثماراً أجنبياً حاصلاً على حقوق الامتياز التجاري، ولا نصيب للشركة الأم سوى نسبة محددة مقابل استعمال علامتها التجارية.
وعلى غرار دعم فرع مكدونالدز في إسرائيل لجنود الاحتلال، صرّح بعض المشغلين لنفس الشركة في دول عربية حسب ما ذكرته شبكة الشرق الأوسط بأنهم “لا يشتركون في الملكية مع الامتياز الإسرائيلي”، كما وأصدرت ستاربكس بيانا نفت فيه دعهما لإسرائيل، معتبرة أنها “مجرد إشاعة مغرّضة لا تمتّ إلى الحقيقة بأي صلة”، كاشفة أنها “لا تقدم أي نوع من الدعم المالي للحكومة الإسرائيلية، أو للجيش الإسرائيلي”.
والمقصود: إن إطلاق الاتهامات من كلا الطرفين بعدم دعم القضية الفلسطينية، أو التواطؤ غير المباشر مع إسرائيل، والتراشق بعبارات مثل: متصهين وصهيوني، دون الأخذ في الاعتبار حجة الطرف الآخر هو اتهام أعمى ولا يجوز، ولا يدل إلا على جهل قائله.
وإن سلمنا جدلاً بأن تلك الشركات تدعم الكيان الإسرائيلي، فهذا الذي اتهمته بالتصهين لربما لا تفوته سجدة في فرض ولا سنة إلا ودعم القضية الفلسطينية بالدعاء، وربما قدّم مئات أو آلاف أو مئات الآلاف من الدولارات لدعم الفلسطينيين، وغير ذلك من أشكال الدعم، ثم لأنك رأيته يأكل شطيرة (هامبرجر) من ماكدونالدز أو يستمتع بكوب قهوة من ستار بكس تتهمه بالتصهين والتواطؤ مع اليهود! أي حكم جائر هذا؟
فهلّا جلست في بيت أمّك وكفيت الناس شرّ لسانك!
واعلم أن اتهامك لشخص بالتصهين يعني جعله كاليهودي الإسرائيلي الذي يستبيح دماء الأبرياء بغير حق، فلو وقفت أنت وهو أمام الله جل في علاه في يومٍ تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وقال المُتهم لربه: يا رب سله لم قذفني؟ فبماذا ستجيب؟ لأنه شرب كوب قهوة؟ ذاك يوم يقتص فيه المظلوم من ظالمه.
كيف ندعم القضية الفلسطينية من بيوتنا؟
بادئ ذي بدء لابد من أن تعلم أن هذا الأمر واجب إسلامي عربي إنساني، والوازع الإسلامي آكد وأقوى.
يقول النبي ﷺ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” وشبك أصابعه.
رواه البخاري ومسلم
ويقول ﷺ: “مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ”.
أخرجه الترمذي
ويقول عليه الصلاة والسلام: :مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”.
أخرجه البخاري ومسلم.
الدعم بالدعاء
وحجم المسؤولية يتفاوت بين الناس بحسب ما يملكون ويستطيعون، فالدعاء يستطيعه الجميع، فواجب عليك أن تحفهم به سرّاً وجهراً، صباحاً ومساءً، وتفعل موجبات قبول هذا الدعاء من تحري أوقات الإجابة، والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، فنزول البلاء في الأمة لا يكون إلا بما اقترفته يداها.
الدعم بالمال
ويكون بحسب استطاعتك وقدرتك، ولا تحقرنّ شيئاً من المال ولو كان قليلاً، فالقليل مع القليل كثير، وعليك أن تتحرى الجهات الموثوقة التي تضمن لك إيصال تبرعك إلى مكانه الصحيح.
الدعم بالمهارة
فإن كنت ذا موهبة تستطيع دعم الفلسطينيين بها فبادر ولا تتردد، فإن كنت صانع محتوى فثقف الناس عن القضية وأهميتها، كذا الأمر إن كنت كاتباً أو مصمّماً أو رسّاماً، فما نفع ما تملك إن لم تنصر به إخوتك؟ وقبل ذلك كلّه عليك أن تفهم وتعرف وتتثقف حول القضية الفلسطينية.
الدعم بالمعرفة
نعم عليك أن تعرف فالأعداء لا يريدونك أن تعرف، لا يريدونك أن تعي، لا يريدونك أن تفهم؛ ليتحكموا بك عن طريق تحديد ما يجب عليك معرفته عبر وسائل الإعلام، فإذا أخبروك أن القضية بدأت ٧ أكتوبر ليبرروا أفعالهم فقد كذبوا وافتروا، فالقضية بدأت منذ وعد بلفور الظالم قبل أكثر من مائة سنة، بل هي قضية إسلامية بالمقام الأول، فالقدس خرج منها أنبياء الله ورسله، واستردَّها عمر بن الخطاب، وسار على عهده صلاح الدين الأيوبي -رضي الله عنهما-.
فإيّاك أن تقع في فخهم وتنساق في شباكهم، وكن واعياً عالماً، فهذان في هذا الزمن قوتان توازي قوة السلاح والاقتصاد، بل أعظم منهما فلولا الأول لم يكن الثاني. ومن أكبر الشواهد على ذلك استنفار معظم الناس حول العالم لدعم القضية الفلسطينية لمّا علموا ووعوا ظلم الاحتلال للفلسطينيين، وأصبح أرباب تلك الدول في موقف ضعف جرّاء ذلك، واضطر بعضهم إلى تغيير أو تخفيف موقفه مثل الرئيس الفرنسي الجبان.
وإن سألتني كيف أكون واعياً حول ذلك؟
فأبشر بالخير فسؤالك هذا هو بداية الوعي، ونحن نفهم عندما نطرح الاسئلة.
وفي ظلِّ امتلاء عالم الإنترنت اليوم بالسموم المدسوسة في العسل فلا أعلم مصادر أثق بها تفيدك على الفهم حول القضية سوى حلقة الدحيح التي تناول فيها اللقضية من مبدأها، وكتاب “الاستعمار وفلسطين” للشيخ الطنطاوي -رحمه الله-، وهو مجموعة من المقالات جمعها حفيده مجاهد ديرانية، وإنّي أحثك على الاستمرار بطرح الاسئلة إلى تملأ عقلك بجميع الأجوبة والتي ستتبعها أسئلة أخرى، وهذا ما يدلّ على أنّك واعي، ولن تغترّ أو تستغرب بعد اليوم عندما ترى تصريحاً لرئيس الولايات المتحدة يستنكر فيها فعل المقاومة الفلسطينية بقتل مجموعة من الجنود واختلاق القصص حول قتل الأطفال؛ لأنك ستتذكر أن فرعون كان يقتّل الأطفال سنة ويتركهم سنة، ويستبيح دماء أتباعه، ثم يقول لموسى عليه السلام: “وفعلت فعلتك التي فعلت”، وكان موسى قد قتل نفساً واحدة وتاب الله عليه!
فاستمر بطرح الأسئلة ولا تكن ضحية للأعلام، تتبع التيار، فيحرّكك حيث شاء، نسأل الله أن ينصر فلسطين نصراً عاجلاً، ويدمر اليهود تدميراً عاجلاً.
هذا ما جاد به القلم، إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطئاً فمني والشيطان، شارك المقال ليعم النفع وتشارك في الأجر.