“يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر”
دخلنا شهر رمضان الذي يتميز بروحانياته وإيمانياته وأجوائه التي لها طعم خاص. يختلف فيه كل شيء، الطعام والشراب، النوم والاستيقاظ، ويمتد إلى بعض الوظائف في القطاع الخاص والحكومي بتقليل ساعات العمل تماشياً مع الشهر الكريم. فالكل يستعد لرمضان ويُعدُّ له العُدة، ولكن أيُّ عدة؟ الناس في الاستعداد لشهر رمضان ينقسمون إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: من يعتبر رمضان موسم العبادة، فيفرِّغ نفسه من كل الشواغل والكوادر والمشتتات، ويتهيأ له بالجد في الإكثار من الطاعات وصنوف العبادات، وعلى رأسها القرآن تلاوة وتدبراً وحفظاً.
القسم الثاني: من يعتبر رمضان موسم جمع الأموال، فهذا يتحرى المواطن التي تزيد من دخله المادي، فيعمد إلى المشاركة في المشاريع بأنواعها، والوظائف بأشكالها، وإن كان على رأس وظيفة بدوام كامل أضاف إليها أخرى بدوام جزئي، بحيث لا يبقى من وقته شيء، خاصة من يقطنون مكة والمدينة، إذ تكثر فيهما الوظائف الموسمية.
القسم الثالث: من يهتمون بالطعام والشراب والأسواق، فهؤلاء تجدهم مكتظين في أسواق التموينات قبل وبداية رمضان، وفي بقية الأسواق فيما تبقى من الشهر استعداداً للعيد، وغالب هذا الصنف من النساء.
القسم الرابع: من لم يختلف معه شهر رمضان عن باقي الشهور، فيمرُّ عليه مرور الكرام، دون مزيد عناية خاصة لهذا الشهر الكريم، وربما انشغل معظم فراغه بالمسلسلات والفوازير والمسابقات الرمضانية.
فهذا الأخير وإن كان أقلّهم إلا أنه تأثر بطريقة أو بأخرى بمجريات هذا الشهر. ومن الملاحظ أيضاً على مستوى الكيانات التجارية، إنشاء المنتجات الرمضانية وتسويقها بالحملات الإعلانية على نطاق واسع، وبالطبع لم تتأخر الكيانات الخيرية غير الربحية عن ذلك أيضاً، بيد أن منتجاتها تختلف من جلب للتبرعات وما إلى ذلك. وهذا كلّه يدل على فضيلة وخصوصية هذا الشهر الكريم، هذا باختصار مبسط حالنا اليوم.
وبالرغم من ذلك لا يجب علينا أن نغفل أو ننسى الغاية الأساسية من هذا الشهر الفضيل، ومن المهم أن نسأل: لم كان شهر رمضان؟ ولم مُيّز عن باقي الشهور؟ وهل المقصد استغلاله بالمقاصد الدنيوية الكثيرة أم اغتنامه بالمقاصد الأخروية؟ سنجيب على هذه التساؤلات من الناحية الشرعية، لأنها هي الأصل وما دونها فرع منها.
قال الإمام ابن القيم في مقدمة كتاب الصيام: “لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصِّيَامِ حَبْسَ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَفِطَامَهَا عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلَ قُوَّتِهَا الشَّهْوَانِيَّةِ، لِتَسْتَعِدَّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمَّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيَّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ مِنْ حِدَّتِهَا وَسَوْرَتِهَا، وَيُذَكِّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنَ الْمَسَاكِينِ.
وَتُضَيَّقُ مَجَارِي الشَّيْطَانِ مِنَ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتُحْبَسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنِ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرُّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكِّنُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلَّ قُوَّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ، فَهُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَال”.
زاد المعاد في هدي خير العباد
نعم شهر رمضان هو لرب العالمين، هو فرصة نستزيد فيها بشتى أنواع العبادات ومن أبرزها قراءة القرآن والاعتكاف والقيام وإخراج الزكاة. فإذا قلت ولم ذاك؟
قلنا أن هذا هو الأصل والأساس من كون رمضان هو رمضان، وهذه هي الغاية العظمى، والغنيمة الكبرى، والحكمة الفضلى، حصلها من حصلها وفوتها من فوتها.
ولو تأملنا في حال النبي صلى الله عليه في رمضان نجده يتحرى “الْإِكْثَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ( «وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» ) يُكْثِرُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ”.
زاد المعاد في هدي خير العباد
هذا كان حاله صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك كان حال من جاء بعده من السلف الصالح، فهذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى إذا دخل رمضان يفرُّ من الحديث، ومن مجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات، وأقبل على قراءة القرآن.
وكان محمد بن إسماعيل البخاري – صاحب الصحيح – يختم في رمضان في النهار كلَّ يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كلَّ ثلاثَ ليال بختمة. وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين.
مما سبق عرفنا الغاية الأساسية من شهر رمضان، وكيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده فيه. دعونا نأتي لواقعنا اليوم، لا أريد أن أكون شخصاً منظِّراً يطالب الناس الاقتداء بالأولين حذو القذة بالقذة دون اعتبار لحوادث وصوارف وشواغل الناس في العصر الحاضر.
فعالمنا أصبح عالم السرعة، كثرت فيه المشتتات والمسؤوليات، من طلب للرزق وتلبية لحوائج الأهل والعيال وما إلى ذلك. ذات مرة كنت أقرأ في سير بعض العلماء، فوجدت بعضهم يقرأ ويدرس لنصف يوم، وآخر ينفرد في صومعته ويتفرغ للتأليف شهراً كاملاً من غير أن يقابل أحداً طيلة هذه الفترة، وآخر كذا، وآخر كذا.
ثم تأملت في حال اليوم، هل منّا من يستطيع أن يفعل ما فعلوه وتحت رعايته أبناء يبكون من الجوع؟ وزوجة تلطم -ليل نهار- من ضيق الحال، ومُؤجرٌ يهدد بالطرد إذا لم يتسلم ماله، وشركة كهرباء ترسل الإنذارات على الهاتف كل أسبوعين تطالب بأموالها، أجزم يقيناً أنهم لو كانوا في زماننا ما وسعهم أن يفعلوا ما فعلوه إلا أن يكونوا أغنياء أو أثرياء، وقلّ أن يجتمع غنى المال وغنى العلم الشرعي في آن واحد مما لمسته من قصص السابقين. بل حتى مراكز الأبحاث والدراسات تدفع الرواتب المجزية للباحثين ليتفرّغوا لدراسة العلوم المختلفة.
ومع هذا كلّه فلا يعني ذلك أن نحيد عن جادة الطريق المعهود في رمضان، وأعلم كم أنه من الصعب أن تُلزم شخصاً يكاد يقرأ بضع صفحات من القرآن في الأسبوع، بضرورة أن يختمه في رمضان، أو شخصٌ لم يعرف سوى الصلواة الخمس وبالكاد يؤديها في وقتها، بأن يلتزم في ليلة وضحاها بالصلواة الخمس والتراويح، وصلاة القيام في العشر الأواخر. وتطلب منه أن يستسلم أمام إغراءات المسلسلات والبرامج الرمضانية المتنوعة والتي يراها شيّقة ممتعة، وربما كان ينتظرها طيلة فترة العام.
دعونا من المثالية، فهذا هو حال أغلب الناس اليوم وخاصة الشباب منهم. أتذكر رمضان الفائت كيف كان يمتلئ مسجدنا عن بكرة أبيه في الصلوات الخمس، بل حتى في القيام يحضر فيه جمع غفير من المسلمين، ثم تتناقص أعدادهم مع كل يوم يمضي فيه شهر رمضان، حتى يُصلي القيام في الليلة قبل الأخيرة شيّاب المسجد ومعهم شاب أو اثنين.
ودائماً ما كنت أتساءل لم هذا التقلّب الغريب؟ والجواب هو ما أخبرتك به فيما سبق من أن نفوس كثير من الناس تعودت على السرعة وعلى الدوبامين.
بينما لو هيّأ كل واحد منّا نفسه بما يتناسب مع طاقته ووضعه، ويضع خطة روحانية يتعبد بها بكل ما يستطيع دون أن يثقل كاهله فيترك بالكلية، كأن يحدد ورداً قرائيا بمقدار متوسط يلتزم فيه ويزيده ما استطاع، ولا يكلف نفسه الختمتين والثلاثة وهو لم يختم حتى ختمة واحدة خلال السنة كاملة فيخرج على إثر ذلك من رمضان خاوي اليدين.
كذا الأمر مع القيام، ولا ننسى الاعتكاف ولو لنصف يوم، وحريٌّ بسكان مكة والمدينة أن يحددوا ولو يوما واحداً يقصدون فيه الحرم يصلون الفرضين والثلاثة مع التراويح، لينهلوا من فيض تلك البركات والروحانيات العذبة.
وعندما أقول لا تكلف نفسك ما لا تطيق لا يعني ذلك أن تنجرف خلف الهوى والشهوات وغيرها، فإن أحرى ما تضبط به نفسك وتلجمها بلجام المتقين هو شهر رمضان، فالنفس إن رُوضت ترتاض وإن فُطمت تُفطم، ولكن نحتاج إلى صبر وجهاد وتدرّج، لا إلى كد للنفس مهلك لها يورثها الملل والتعب ثم الفتور والانتكاس.
ومن المهم أن نبتعد عن المقارانات، فنحن مختلفون في الإقبال الكلي والجزئي والوسطي للعبادات، فمنّا من فتح الله عليه يختم المرتين والثلاث والعشر، ومنّا من لو قرأ نصف القرآن في رمضان كان ذلك أكثر مما قرأه في عام كامل، فهذا في حقه خير كثير، إذ قد ازداد أضعاف ما كان منه في الأيام العادية، وكلما زاد كان ذلك خير، كما قال عليه الصلاة والسلام: ” فإن منزلته عند آخر آية يقرأها”.
التسوق في رمضان
أجد من الغريب حقاً انكباب الناس بهذه الأفواج الهائلة على الأسواق في رمضان، وكأن البضائع سوف تطير إلى السماء إن لم يشتريها أحد خلال شهر رمضان أو قبله، أو أن هناك عقوبة ستفرض على من لم يذهب إلى السوق فترات طويلة، وإن احتج أحدهم بالعيد، فصلاة العيد في اليوم الأول فقط، وتستطيع بعدها أن تعايد أقاربك وأحبابك على مهلك، وتذهب إلى الأسواق في الوقت المناسب لك.
نستطيع أن نعزو الأسباب الرئيسية التي تجعل بعض الناس مهووسين بالأسواق إلى ما يروّج على وسائل الإعلام، من شتى الإعلانات الرنّانة التي تجعلك تخسر كل شيء إن لم تنفذ ما يخبروك به، أقولها لكم بعد خبرة لا بأس بها في كتابة المحتوى، خذوا هذا التسريب مني نحن بصفتنا كتّاباً لنصوص الإعلانات المقروءة والمسموعة والمرئية، نضع جلّ تركيزنا على اختيار العبارات الرنانة بحيث لا يقاومها المستهلك فيتخذ على إثرها إجراءً بالشراء.
ونطبّل ونفخم ونعظم منتجات لم نرها أو نتحسسها أو نتذوقها، لذا أرجوك -حتى وإن كان ذلك لا يحقق أهدافنا في كتابة المحتوى- لا تقع ضحية للحملات التسويقية والخصومات الزائفة.
فمن حق رمضان علينا أن نوليه اهتماماً خاصّاً، ونوازن بين شواغلنا واحتياجاتنا اليومية، وبين حق شهر القرآن علينا. ومن محاسن ديننا أن الإنسان يؤجر بنيته بما لا يُؤجر بعمله، فأخلصوا نياتكم، وشدوا هممكم وعزمكم، وتوكلوا على الله، والله ولي التوفيق.