تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » قصة قصيرة: الحصة الثالثة

قصة قصيرة: الحصة الثالثة

صورة تعبر عم استاذ يشرح لطلابه

وأنا داخل من بوابة المدرسة، ارتطم بي من الخلف ووضع يده اليسرى على كتفي الأيسر، “كيف حالك يا دبدوبي”، فعرفته إنه زميلي أحمد أراد مفاجأتي في الصباح الباكر، وكان لأحمد علاقات مع المدرسين والإداريين يتباهى بذلك على الدوام، وأخبرني: أن الموجه سوف يزورنا اليوم، لم أعر لكلامه أي اهتماماً فلا يهمنا نحن الطلاب قدوم الموجه من عدمه، وإنما يهم الأساتذة.
اقترب موعد الحصة الأولى، صعدت الدرج قاصداً الفصل، وفي أثناء صعودي قابلت زميلي خالد وهو يتثاءب ووجهه مجعّد يوحي شكله بأنه ذاهب إلى غرفة النوم لا قاعة دراسة،
فقلت له: “ما في يوم أتيت المدرسة وأنت نشيط!”،
فأجابني: “أنت لي زعلان هو أنا بنام في حضنك”،
وهذه ردوده مع كلّ من يلومه في محبة محبوبه، “كم حصة مخطط تنام اليوم؟”،
“دعني أرى؛ الحصة الأولى بالتأكيد لأنها قرآن، وغفوة بسيطة من الثانية لأنها توحيد والأستاذ شديد، أما الثالثة يا سلام لغة الكفار بنام الحصة كلها وبعدين فسحة بصحى لنهاية الدوام”
ونحن نمشي من الدرج إلى الباحة أمام الفصل، أتى صوت عالي من آخر الساحة”يلا على فصلك أنتَ وهوَ” إنه المراقب لا يكلّ ولا يملّ من الصراخ كلّ يوم، وكأن المدرسة تدفع له كي يصيح فقط.
دخلنا الفصل وتبقى على بداية الحصة الأولى عشر دقائق، فاستكملت الحديث أنا وخالد وتناقشنا حول الحصة الثالثة وهي مادة اللغة الانجليزية، انضم إلينا زميلنا حسن، وكنت أتساءل محدثاً إياهم لم نحن طلاب العلم الشرعي ندرس لغة الكفار؟
ما حاجتنا لها؟
ما الفائدة من دراستها؟
لا أرى إلا أنها مادة زائدة أُدخلت علينا، ووافقني في كلّ ذلك خالد وحسن، واستمرينا في هذا الحديث حتى دخل الأستاذ عابد مدرس مادة القرآن الكريم، فجلس كلٌّ في مكانه ونام خالد كما قال.
ثم حانت الحصة الثانية حصة التوحيد مع الأستاذ محمد، وبعدها الحصة الثالثة حصة اللغة الانجليزية، في الزمن الفاصل بين الحصة الثانية والثالثة، فُتح باب الفصل بقوة، ووقف على الباب أحمد بكل حماس بالرغم من كون فصله مختلفاً عن فصلنا، ولكنه لا يستطيع كبح جماح اللقافة، وقال بصوت بحوح عالي: “يا شباب يا شباب الموجه جايكم الحين مع الأستاذ”، فأجابه صوتٌ من وسط الطلاب، “طيب! ما المطلوب؟”، فضحك الجميع وذهب أحمد وهو محمرّ الوجه.

لم نلبث طويلاً حتى دخل الأستاذ عبد العزيز مدرس اللغة الانجليزية، فسلم وصعد إلى المنصة، وكان على غير عادته يبدو في استعداد تام للدرس أحضر أقلامه التي في العادة ينساها، بل وأحضر عدة ألوان منها، فاستفتح بعد البسملة وقال: “اليوم عندنا درس مهم يا شباب”، قلت في نفسي منذ متى كانت دروس اللغة الانجليزية مهمة، لم تمر عشر دقائق حتى طرق شخصٌ الباب، فأذن له الأستاذ وإذا هو الموجه مرتدياً ثوباً ناصع البياض، وشماغاً مستقيماً كأنه محراب، ونظارةً سميكةً منخفضةً على أنفه كأنه طبيب، ممسكاً شنطته السوداء المستطيلة، بحث عن مكان يجلس فيه، وكان أحد الطلاب يجلس في آخر الصف في زاوية الفصل غائباً اليوم، فجلس مكانه وصار يملك رؤية خلفية لجميع من في الفصل ولا يراه أحد سوى الأستاذ عبد العزيز من منصته.

شمّر الأستاذ عبدالعزيز عن ساعديه واستكمل شرح الدرس، وأخلص في سرده أيما إخلاص، حتى الطلاب الذين لا يفهمون هذه اللغة في تلك الحصة فهموا، وامتلأت السبورة عن بكرة أبيها، وكان يتحرك في أرجاء المنصة حتى تعرّق مع وجود التكييف البارد، لما انتهى سأل الطلاب إن كان منهم من لم يفهم، رفع البعض أيديهم فأعاد لهم ما لم يفهموا حتى فَهِموا.
أما أنا فلم أكن أبالي بالدرس أو بالفهم كان عقلي يسرح في خيال الإصدار الجديد من لعبة فيفا، أما خالد فكان نائماً على عادته، وحسن يأكل أظافره بأسنانه ويفكر بما سيأكله في وقت الفسحة، ولم نعر الدرس أدنى اهتمام أو مبالاة، كلُّ ذلك الموجه صامت ممسك بأوراقه التي أخرجها من الشنطة، وفي أثناء ذلك كانت عينه تراقب الجميع، لم يخف على نظارته السميكة أحد.
لمّا فرغ الأستاذ عبد العزيز من الدرس، استأذن الموجهُ ليعتلي المنصة، فأذن له، ثم قال لما توسّط المنصة:
“فاهمين الدرس؟”
فأجبنا: “نعم”
“كلكم؟”
“نعم”
ثم تنحى قليلاً إلى الجهة اليسرى من المنصة وغطى بجسده جزءاً من السبورة، ونظر إلى الجهة اليسرى من الفصل، وأشار بإصبعه إلى خالد، “أيقظوا هذا النائم .. ما هو اسمه؟..خالد.. صباح الخير.. قف يا خالد”.
ثم نظر إلى الجهة اليمنى، وأنزلت أنا رأسي وأزحت عيني عن عينيه كي لا ينتبه لي، أشار بالرغم من ذلك إلي: “وأنت يا من تنظر في الطاولة ما اسمك؟.. موسى.. أوقف حبيبي موسى”.
ثم نظر إلى وسط الفصل، “وأنت يا.. أنا؟!.. نعم نعم وش اسمك.. حسن.. قف يا بطل”.
فسكت هنيهةً، ووقفنا جميعاً نترقب السؤال الذي سيأتي، ولم أخفْ على كل حال فلابد أنه سيسأل سؤالاً صعباً؛ كي لا نستطيع الإجابة عليه، ونحن معذورون فهي لغة كفار في أول ونهاية الأمر، فخرج عن صمته وقال: “أجيبوني أنتم الثلاثة ما هو موضوع الدرس؟” صدمة!، تلاها صمت، أطبقت أفواهنا وكأننا فقدنا القدرة على الكلام، علِم الموجه من مراقبته لنا أننا لم نعر الدرس أي اهتمام من بدايته وحتى نهايته، فكان سؤاله لنا سهلاً ممتنعاً، ولكنّي تنبهت أن الموضوع مكتوب على السبورة، فأدرت نظري بسرعة كبيرة لأتدارك الموقف، وأنظر إلى العنوان وأنطق بالجواب، فكانت صدمة أخرى، أن انحراف الموجه إلى الجهة اليسرى من السبورة كان من أجل تغطية العنوان المكتوب فيها، فيا لله ما أمكر هذا الموجه، لم يُجبْ أحد، ودق جرس الحصة لينقذنا من هذا الموقف، وذكر الموجه بعض النصائح والتوجيهات وأنهى الحصة وخرج، ثم صعد الأستاذ عبد العزيز إلى المنصة ليأخذ أقلامه ونظر إلينا نظرةً لو ترجم مضمونها وكتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرةً لمن اعتبر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *