تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » قصة قصيرة: نظرة حنين

قصة قصيرة: نظرة حنين

أثناء تأدية شادي لمهامه العسكرية في إحدى الشركات المرموقة في وقت الظهيرة كان يحادث زميله صالح، ويتذمران حول الأعمال الشاقة التي تُوكل للعسكر الأدنى مرتبة، جاءه اتصالٌ من والده يخبره فيه أن يحضر سريعاً إلى المشفى؛ لأنّ أخاه محمد يحتضر، اضطرب شادي وتردد، أيذهب مباشرةً ويترك عمله، أم يُخبر الضابط ليرى إن كان سيأذن له بالانصراف، وأصبحت يداه ترتجفان، رآه زميله صالح وقال: “هدّئ من روعك ما الذي حصل عسى أن يكون الأمر خيراً؟”، فأخبره بالخبر، فأشار إليه صالح بسرعة الذهاب إلى أخيه وسيتولى هو مواجهة الضابط بهذا الأمر.

خرج مسرعاً من مقرّ عمله، واستقلّ مركبته وأسرع في السير بها حتى كاد يصطدم بالمركبات الأخرى، وصل إلى المشفى واقترب من غرفة أخيه فوجد امرأً جالساً على الأرض ويداه على رأسه، تبدو عليه الصدمة والفزع، تحيّر في أمره! ثم تجاوزه ودخل الغرفة فوجد أخاه فوق السرير مغطىً بشرشف أبيض، فاستنتج عقله أنه مات ولكن قلبه لم يصدق ذلك، فلما رأى أباه جالساً بجانب السرير يبكي، وأمه تمشي في الغرفة وتصرخ وتلطم خدها، وباقي إخوته يبكون وأعينهم تنظر إلى الأرض، أيقن أنّ أخاه قد فارق هذه الحياة، ولم يتمالك نفسه حتى انهمرت دموعه هو أيضاً.

وفي اليوم التالي تقرّر دفن ميِّتهم بعد صلاة العصر، وبعد تأدية الصلاة أخذوا جثتهم وذهبوا بها إلى المقبرة ودفنوها، ودَعَوا لفقيدهم بالثبات ولم يلبثوا طويلاً حتى انصرفوا  إلى المعزّين، فلما فرغ الجميع وذهب كلٌّ في حال سبيله، أراد شادي أن يعود إلى القبر ليلقي نظرةً أخيرةً على أخيه، فوجد عنده رجلاً جالساً على التراب، وجهه ممتلئ بآثار الدموع، وجسده ممرّغ بالغبار وآثار التراب، فتساءل في نفسه عن هويّة هذا الشخص، وما هي علاقته بأخيه، وشك بأنه هو نفسه الذي كان جالساً بجانب غرفة أخيه بالمشفى، تردّد في محادثته، واكتفى بإلقاء نظرةٍ سريعةٍ ثم غادر المقبرة.

وبعد عدة أيام، عاد شادي إلى عمله وإلى روتينه المعتاد، تلقى عقاباً صارماً من مسؤوليه، فلم يكونوا يتساهلون مع هذه التصرفات مهما كانت الأعذار، ومضت أربعة أشهر على وفات أخيه وبينما يحادث زميله صالح كالمعتاد مرَّ من أمامهم موظفٌ يرونه للمرة الأولى قد تعيَّن منذ فترة قريبة، لما رأى الموظفُ شادي وصالح، توقف ونظر إلى شادي، وأطال النظر كأنّه يتفحص، استغرب شادي وصالح، “ما بال هذا الرجل يحدِّق بنا!”، ثم اقترب منهم الموظف وصافحهم ونظر إلى أسم شادي على بذلته فلما قرأه رفع رأسه ونظر إلى وجهه نظرةً مملوءةً بالحنين، ثم عرّفهم نفسه وذكر لهم اسمه وهو سامي وسألهم عن حالهم، وأراد أن يطيل البقاء معهم ولكنّه خاف أن يضجرهم من أول لقاء فانصرف عنهم.

وفي اليوم التالي أعاد الكرة وحادثهم قليلاً، وفي اليوم الثالث أحضر بعضاً من القهوة والسكريات ووضعها أمامهم، وفي اليوم الرابع أحضر بعضاً من الشاي والبسكويت وقدمه لهم، شعر صالح بالامتنان، وقال: “شخصٌ لا نعرفه يكرمنا كل يوم كم نحن محظوظون”، أما شادي فشعر بالامتعاض، وَوسوس له الشيطان حتى قال: “كيف لشخصٍ يرانا للمرة الأولى أن يفعل معنا كلَّ هذا، لابدَّ أن وراءه أمر ما، لاشكّ أنّه يهدف لشيء ما، إذا جاء في المرة القادمة فسأزجره وسأعرف سبب أفعاله هذه”.

فلما جاء سامي في اليوم التالي وفي هذه المرة أحضر بعضاً من الحلويات الفاخرة مصحوبةً بالقهوة، فلما أراد أن يقدمها لهم، دفع شادي الفنجان من يد سامي فجاء قليلٌ من القهوة على جسده، وقال رافعاً صوته: “مالذي تهدف إليه بإكرامك الزائف هذا؟ أتبتغي شيئاً من ورائنا نحن العسكر؟ أعترف وإلا رفعت عليك محضراً”، أجاب سامي بصوت مبحوح، وعين امتلأت بالدموع: “اكتشفت عندما رأيتك للمرة الأولى وقرأت اسمك، أنك شقيقٌ لأعزِّ أصدقائي وقد وافته المنية قبل أربعة أشهر، فلما رأيتك تذكرت صديقي، ولمّا أبصرتك لم أتمالك نفسي، ما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبهك بصديق الأمس، سبحان من سوّاك فعدلك، وبتشبيهك لصديقي كمّلك”.

عادت الذاكرة بشادي إلى اليوم الذي مات فيه أخوه وأدرك أنّ الشخص الذي كان جالساً بجانب باب غرفة أخيه بالمشفى، والذي كان ممرّغاً بالتراب بجانب قبر أخيه، هو نفسه الماثل أمامه، قد اختلف شكله في هيئته الوظيفية، وأكمل سامي كلامه وقد تساقطت دموعه” لما عرفت أنك شقيق صديقي صرت أصنع أي سببٍ لأراك ولو فترةً قصيرة”، قاطعه شادي وضمّه ضمةً طويلةً وقبّل رأسه وأعتذر عن سوء فعله.

النهاية

هذا ما جاد به القلم، شاركني في التعليقات، ما شعرت به وأنت تقرأ هذه القصة.

1 أفكار بشأن “قصة قصيرة: نظرة حنين”

  1. تنبيه Pingback: قصة قصيرة: العاقبة – مدونة موسى بن عبد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *