- لماذا يُفضّل الناس المقاهي أثناء القراءة؟
- هل يمكن أن يخون الصديق؟
في الثامنة مساءً ذهبت إلى مقهى (حزب الشاي) أردت تغيير روتينيَ المعتاد في القراءة، فقد مللت نوعاً ما من الحدائق والبساتين، ودائماً ما أرى القرّاء يصوّرون أنفسهم وهم يقرؤون في المقاهي وبجانبهم القهوة، يبدو بأن هذا الطقس يروقهم كثيراً ويحفزهم عليها.
قررت تجربة هذا الطقس، لمّا وصلت إلى المقهى، طلبت بعضاً من الشاي (المخلوط)، وجلست على طاولة بمنأى عن الناس؛ لأحظى بالهدوء والسكينة أثناء القراءة، وكان بجانبي طاولةٌ لأربع أشخاص فارغة، وصل الشاي الذي طلبته وانسجمت بالقراءة، بدى كلُّ شيءٍ مثالي وجميل، فرغ كأسي فطلبت آخر وانسجمت تماماً في هذه الأجواء، إلى أن دخل إلى المقهى بصورة ملفتة ثلاثة شبّان، يلبس الأول ثوباً أبيضاً وشماغاً أحمراً مجعّداً ملفوفاً على رأسه، ويلبس الثاني بذلةً أنيقةً، وجزمةً بيضاء، وشعره مصفوفٌ بشكلٍ جميل، وأما الثالث فكان لابساً ثوباً عاديا محسور الرأس.
صاحب الشماغ كان أعلاهم صوتاً عند دخوله، والآخران يجاريانه بالكلام، دعوت الله في نفسي ألا تأتي أعينهم على الطاولة بجانبي، وللأسف كانت أولُ ما وقع على نظرهم، فجلسوا عليها، وأعين الناس تنظر إليهم بتعجبٍ واستغراب، وأيقنت أن الحلم الجميل الذي أعيشه قد اقترب من نهايته.
نادى صاحب الشماغ (النادل) بصوت عال، فلما حضر تكلم صاحب البدلة الأنيقة وطلب منه إحضار ثلاثة أكوابٍ من (الموكا)، وسأل رفقته: “هل أنتم موافقون على هذا الطلب؟”،
أومأ محسور الرأس بالموافقة،
وأما صاحب الشماغ تضجّر وقال: “لا يا صاحبي، (موكا)؟، اعطني (موهيتو) الله يسلمك وحط معه حمضيات”،
فقال الأنيق: “طلبٌ غريب”،
“والله الغريب أنت وطلبك”
“في أحد يطلب حمضيات في مقهى”
“إيه أنا، هم حاطينه زينة مثلاً!”
في وسط هذه المحادثات الغريبة، والأصوات المرتفعة، أُلهيت عن قراءتي، وكاد الشاي أن يبرد، أَتَرَكَ هؤلاء المراهقون خمسين ألف مقهى في هذا البلد واختاروا الذي أنا فيه؟! أعميت أعينهم عن جميع المقاعد الفارغة سوى التي بجانبي! لماذا لا تدوم اللحظات السعيدة دائماً؟ لماذا يحبُّ الكدر أن يداهمنا كلّ ما وجدنا في صفاء؟ ألا نستطيع ولو لمدة قصيرة أن نعيش حياتنا كما نريد؟ إن كانت المقاهي هكذا أنّى لعشّاق القراءة أن يهنؤا فيها؟ أم هي مثاليات أمام آلات التصوير فقط!
أغلقت كتابي متأفّفاً، فروايات نجيب محفوظ لا تُقرأ في هذا الجو العكِر، وهممت أن أكمل الشاي فنبذته لبرودته، وقررت مغادرة هذا الجحيم.
وأكمل الشباب حديثهم غير مبالين بمن حولهم،
قال الأنيق: “أنتم للحين ما تتطورون حتى في سياراتكم”
رد صاحب الشماغ : “والله إن السيارات القديمة أطلق من الجديدة بمليون مرة”
“هيهات هيهات لا توجد أي مقارنة حتى”
حاول محسور الرأس تهدئتهم لمّا رأى ارتفاع أصواتهم، فقال: “اخفضوا أصواتكم فالناس ينظرون إلينا..”، لم ينصتوا إليه، فقاطعه صاحب الشماغ مخاطباً الأنيق:
“والله لو تتحداني أجيب سيارتي القديمة وأقفل ملفك بدعسة بنزين”
فرد عليه متهكماً: “إنّك تهرف مثل عجوزٍ خَرِف”
ذقت ذرعاً من هذه المحادثات بما فيه الكفاية، فانصرفت من هذا المكان بائساً، فتحت باب مركبتي وهممت بالركوب، تأمّلت الشارع أمام المقهى فوجدته طويلاً وهادئاً وعليه رصيفٌ واسعٌ يصلح للمشي، والساعة قاربت العاشرة، لا زال الوقت مبكراً، أغلقت باب المركبة وذهبت للمشي، سرت إلى إن وصلت آخر الشارع، ثم التففت كي أعود من حيث أتيت.
فرأيت على شارع الخدمة بضعة أشخاصٍ تجمعوا ممسكين هواتفهم استعداداً للتصوير، ثم جاءت سيارتان (ددسن) من نوعٍ قديم و(إلنترا) حديثة الإصدار، واصطفّا بجانب بعضهما وكأنهما في مضمار سباق، وقفا مدة زمنية حتى خلا الشارع من المركبات، وأطلق أحد الجمهور منبه سيارة واقفة، فانطلقا من فورهما مسرعين يريد كلٌّ منهما سبق الآخر، ولما اقتربا من آخر الشارع، وكانت رؤيتي لهما ضعيفةً لبعدهما وشدّة سرعتهما، سمعت دوي اصطدامٍ عال، أرعب الصوت كلَّ من سمعه، لم أعرف ما الذي جرى، فأسرعت بخطواتي لأعرف ما حدث، ورأيت الناس هرعين من كلّ مكان إلى وسط الشارع حتى اجتمع عددٌ كبير وتحولقوا حول سيارة من نوع (إلنترا) مقلوبةً رأساً على عقب، تتبعت آثارها إذا بها اصطدمت بالرصيف وتقلّبت من شارع الخدمة الأيمن حتى وصلت الشارع الأيسر المعاكس.
اقتربت منها فوجدت الأنيق الذي كان بالمقهى قد أخرجه الناس من داخلها غارقاً في دمه، غائباً عن الوعي، ومحسور الرأس بين الجمع ينظر إليه مدهوشاً، واضعاً يديه على رأسه مذعوراً من هول الموقف، وقلت لابدّ أن الذي كان يسابقه صديقهم صاحب الشماغ، نظرت يمنةً ويسرةً لعلي أجده، ولكن لم أجد سوى آثار إطارات مركبته! فرّ بجلده ولم يتكلّف عناء الإطمئنان على صديقه.
النهاية
فوائد من القصة:
- التنويع والتغيير يقدح الشغف ويقضي على الملل.
- الانجراف خلف نزوات التحدي الطائشة يفضي إلى الهلاك.
- ليس واجباً عليك الانتصار في جدالات المجالس لتثبت أنك على حق، وليس كلّ انسحاب هزيمة، بل قد يكون انتصاراً لرجاحة عقلك.
- لا تقع ضحيةً لحماس الجمهور وتعطشهم لكل ماهو مسلٍ وممتع دون النظر في العاقبة.
- تعرف معدن الشخص إذا حلّت بك نائبة، فقد يخونك من تظنه أقرب أصدقائك، ويقف معك من تظنّه أبعدهم.
انظر القصص الأخرى:
تنبيه Pingback: قصة قصيرة: بين طيّات الكتب القديمة – مدونة موسى بن عبد الله